يوجد في أجساد كل منا جهاز خاص، يُعنى بالدفاع عن بقية أعضاء وأجهزة الجسم الأخرى، هو جهاز المناعة. وفشل هذا الجهاز أو انهياره التام، يؤدي إلى عواقب وخيمة، تجعل الجسم فريسة سهلة للميكروبات والجراثيم، كما هو الحال مع مرض نقص المناعة المكتسب (Acquired Immune Deficiency Syndrome)، المعروف بمرض الإيدز. وعلى خلاف أجهزة الجسم الأخرى مثل الجهاز الهضمي أو الجهاز التنفسي، يؤدي جهاز المناعة وظيفته في حماية الجسم من خلال مجموعة من الإجراءات والأساليب، تعرف بالميكانيزمات الدفاعية، تعتمد في أساسها على التعرف على الجراثيم والميكروبات التي تحاول غزو الجسم، ومن ثم القضاء عليها. وعملية التعرف تلك، أحياناً ما تصاب بخلل شديد يعجز معه جهاز المناعة عن التفرقة بين الجراثيم وبين خلايا الجسم الطبيعية، فيشرع في مهاجمة خلايا الجسم هي الأخرى، وهو الاختلال الذي يعرف بأمراض المناعة الذاتية (Autoimmune Diseases). ولم يتوصل العلماء بعد إلى سبب وقوع مثل هذا الاختلال، وإن كانت الشكوك تدور حول عوامل وراثية جينية، أو عوامل بيئية منذ الطفولة. وتتضمن مجموعة أمراض المناعة الذاتية قرابة الخمسين مرضاً، ربما كان أشهرها داء السكري من النوع الأول، الذي كان معروفاً سابقاً بسكري الأطفال، ومرض الذئبة الحمراء، والتصلب المتعدد، والأنيميا الخبيثة، والروماتويد، وغيرها. ويندرج الروماتويد أيضاً تحت مجموعة من الأمراض تعرف بالتهابات المفاصل، وإن كان يختلف عن الروماتيزم، الذي هو في الحقيقة مصطلح عام، يشمل الآلام والأوجاع التي تصيب المفاصل والعظام والأنسجة والعضلات المحيطة بها. ويصيب الروماتويد شخصاً واحداً من بين كل مئة، وتزيد معدلات الإصابة به بين النساء بمقدار الثلاثة أضعاف عنها بين الرجال، وهي خاصية تميز العديد من أمراض المناعة التي تميل الى الانتشار بشكل أكبر بكثير بين النساء. ولوقت ليس بالبعيد، كان الأطباء ينظرون للروماتويد على أنه مرض مزمن، يسبب آلاماً وإعاقة مزمنة، ليس إلا. ولكن قبل بضعة أعوام أظهرت دراسة أجريت في جامعة آلاباما في الولايات المتحدة، أن احتمالات وفاة النساء المصابات بالروماتويد، تساوي احتمالات وفاة الأشخاص المصابين بالسرطان أو بأمراض القلب. حيث أظهرت الدراسة أن 60 في المئة من النساء المصابات بالروماتويد، يتوفين في متوسط سن مبكرة، مقارنة بمتوسط عمر النساء الصحيحات. وهذه النتائج المفزعة تظهر حقيقة كون الروماتويد مشكلة صحية خطيرة الأبعاد، تتساوى وربما تزيد في مضاعفاتها ونتائجها مع أمراض أخرى أسوأ سمعة. والغريب أن سبب الوفيات المرتفعة نسبياً بين المصابين بالروماتويد غير معروف بدقة. والأغرب أن البعض يعتقد أن السبب خلف تلك الوفيات، ربما يكون العقاقير الكيماوية والأدوية الطبية التي تستخدم للسيطرة على أعراض وعلامات وآلام المرض، والتي غالباً ما تسبب العديد من الآثار الجانبية السيئة. ولذا اتجه الباحثون بأفكارهم نحو تطوير العقاقير والطرق العلاجية المعتمدة على العمليات الحيوية، التي يمكنها أن تخفف كثيراً من معاناة المرضى، وربما حتى تحقق لهم الشفاء التام، ودون أن تترافق بالأعراض الجانبية الخطيرة المصاحبة للعقاقير الكيميائية الأخرى. ويمكننا تعريف الطرق العلاجية المعتمدة على العمليات البيولوجية، أو العلاج البيولوجي (Biological Therapy)، بأنها العلاج المعتمد على استخدام عقاقير وأساليب تم تفصيلها وتطويعها لتصحيح خطأ مناعي أو وراثي، يتسبب في الإصابة بمرض ما. وحتى إذا ما كان سبب المرض غير معروف، فإنه يمكن للعلاج البيولوجي التخلص من، أو تصحيح، الاختلالات في المواد والجزيئات البيولوجية المعروف عنها ارتباطها بالمرض. وقد تلقى هذا الاتجاه مع بداية هذا الأسبوع دفعة قوية، مع إعلان مجموعة من علماء جامعة "نيوكاسل" في بريطانيا، عن توصلهم إلى أسلوب جديد، قد يمكن الأطباء من خلال حقنة واحدة، من وقف تطور المرض وتدهور حالة المريض. ويعتمد هذا الأسلوب الجديد على أخذ مجموعة من كريَّات الدم البيضاء، ومعالجتها بكوكتيل من الهرمونات والفيتامينات، ثم إعادة حقنها مرة أخرى في المفصل المصاب. ويهدف هذا الأسلوب، إلى إرجاع بعض الخلايا الخاصة في جهاز المناعة (Dendritic Cell) إلى حالتها الطبيعية قبل الإصابة بالمرض، مما يجعلها تميز بين خلايا الجسم الطبيعية وبين الجراثيم، وتتوقف بالتالي عن مهاجمة خلايا الجسم. أي أن هذا الأسلوب يعتمد على كون سبب المرض هو حدوث اختلال في "برمجيات" خلايا جهاز المناعة، وهو الاختلال الذي يمكن معالجته من خلال هذا الأسلوب. وهو مشابه لما يحدث عند حدوث اختلال في نظام تشغيل الكمبيوتر مثلاً، ويصبح الحل الوحيد هو إعادة تثبيت البرنامج من جديد. ولكون هذه الخلايا التي تمت إعادة ضبطها مرة أخرى مأخوذة في الأصل من المريض، يمكن حينها تجنب المضاعفات الجانبية الخطيرة التي كانت تنتج عن استخدام العقاقير الكيميائية، كما أن هذا العلاج سيتم تنفيذه مرة واحدة فقط ليحقق الشفاء التام، أو ربما يحتاج للإعادة بعد سنوات طويلة. ولذا على رغم تكلفته المرتفعة، التي قد تبلغ الآلاف من الدولارات للجلسة الواحدة، فسيعتبر في النهاية أقل تكلفة من العلاج الكيمائي الذي يضطر المرضى إلى تعاطيه لعدة عقود أحياناً. ومثل هذه النتائج إذا ما تم تحقيقها بالفعل خارج المعامل، فستعتبر حينها ثورة طبية، ليس فقط على صعيد علاج الروماتويد وغيره من أمراض المناعة الذاتية، بل في جميع التطبيقات المأمولة للأساليب العلاجية البيولوجية. د. أكمل عبد الحكيم